كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإذا فهمت أن هذه الآلات أصول لابد منها للحركة وأن الحركة لابد من تقدرها ليتقدر ما يتولد منها فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدرة التي لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر إذا جاء أجلها أي حضر سببها وكل ذلك بمقدار معلوم وأن الله بالغ أمره إذ جعل الله لكل شيء قدرا فالسموات والأفلاك والكواكب والأرض والبحر والهواء وهذه الأجسام العظام في العالم كتلك الآلات والسبب المحرك للأفلاك والكواكب والشمس والقمر بحساب معلوم كتلك الثقبة الموجبة لنزول الماء بقدر معلوم وإفضاء حركة الشمس والقمر والكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرفة لانقضاء الساعة.
ومثال تداعي حركات السماء إلى تغيرات الأرض هو أن الشمس بحركتها إذا بلغت إلى المشرق واستضاء العالم وتيسر على الناس الإبصار فيتيسر عليهم الانتشار في الأشغال وإذا بلغت المغرب تعذر عليهم ذلك فرجعوا إلى المساكن وإذا قربت من وسط السماء وسمت رؤوس أهل الأقاليم حمي الهواء واشتد القيظ وحصل نضج الفواكه وإذا بعدت حصل الشتاء واشتد البرد وإذا توسطت حصل الاعتدال وظهر الربيع وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة وقس بهذه الأمور المشهورات التي تعرفها الغرائب التي لا تعرفها واختلاف هذه الفصول كلها مقدر بقدر معلوم لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر {والشمس والقمر بحسبان} 55 سورة الرحمن / الآية 5 أي حركتهما بحساب معلوم فهذا هو التقدير ووضع الأسباب الكلية هو القضاء والتدبير الأول الذي هو كلمح البصر هو الحكم والله تعالى حكم عدل باعتبار هذه الأمور وكما أن حركة الآلة والخيط والكرة ليست خارجة عن مشيئة واضع الآلة بل ذلك هو الذي أراده بوضع الآلة فكذلك كل ما يحدث في العالم من الحوادث شرها وخيرها نفعها وضرها غير خارج عن مشيئة الله عز وجل بل ذلك مراد الله تعالى ولأجله دبر أسبابه وهو المعني بقوله: {ولذلك خلقهم} 11 سورة هود / الآية 119.
وتفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير ولكن المقصود من الأمثلة التنبيه فدع المثال وتنبه للغرض واحذر من التمثيل والتشبيه.
تنبيه:
قد فهمت من المثال المذكور ما إلى العبد من الحكم والتدبير والقضاء والتقدير وذلك أمر يسير وإنما الخطير منه ما إليه في تدبير الرياضيات.
والمجاهدات وتقدير السياسات التي تفضي إلى مصالح الدين والدنيا وبذلك استخلف الله عباده في الأرض واستعمرهم فيها لينظر كيف يعملون.
وإنما الحظ الديني من مشاهدة هذا الوصف لله تعالى أن يعلم أن الأمر مفروغ منه وليس بالأنف وقد جف القلم بما هو كائن وأن الأسباب قد توجهت إلى مسبباتها وانسياقها إليها في أحيانها وأجالها حتم واجب فكل ما يدخل في الوجود فإنما يدخل بالوجوب فهو واجب أن يوجد وإن لم يكن واجبا لذاته ولكن واجب بالقضاء الأزلي الذي لا مرد له فيعلم أن المقدور كائن وأن الهم فضل فيكون العبد في رزقه مجملا في الطلب مطمئن النفس ساكن الجأش غير مضطرب القلب.
فإن قلت فيلزم منه إشكالان:
أحدهما أن الهم كيف يكون فضلا وهو أيضا مقدور لأنه قدر له سبب إذا جرى سببه كان حصول الهم واجبا.
والثاني أن الأمر إذا كان مفروغا منه ففيم العمل وقد فرغ هو عن سبب السعادة والشقاوة.
فالجواب عن الأول أن قولهم المقدور كائن والهم فضل ليس معناه أنه فضل على المقدور خارج عنه بل أنه فضل أي لغو لا فائدة فيه فإنه لا يدفع المقدور ولأن سبب الهم بما يتوقع كونه هو الجهل المحض لأن ذلك إن قدر كونه فالحذر والهم لا يدفعه وهو استعجال نوع من الألم خوفا من وقوع الألم وإن لم يقدر كونه فلا معنى للهم به فبهذين الوجهين كان الهم فضلا.
وأما العمل فجوابه قوله اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
ومعناه أن من قدرت له السعادة قدرت بسبب فيتيسر له أسبابها وهو الطاعة ومن قدرت له الشقاوة والعياذ بالله قدرت بسبب وهو بطالته عن مباشرة أسبابها.
وقد يكون سبب بطالته أن يستقر في خاطره إني إن كنت سعيدا فلا أحتاج إلى العمل وإن كنت شقيا فلا ينفعني العمل وهذا جهل فإنه لا يدري أنه إن كان سعيدا فإنما يكون سعيدا لأنه يجري عليه أسباب السعادة من العلم والعمل وإن لم يتيسر له ذلك ولم يجر عليه فهو أمارة شقاوته.
ومثاله الذي يتمنى أن يكون فقيها بالغا درجة الإمامة فيقال له اجتهد وتعلم وواظب فيقول إن قضى الله عز وجل لي في الأزل بالإمامة فلا أحتاج إلى الجهد وإن قضى لي بالجهل فلا ينفعني الجهد فيقال له إن سلط عليك هذا الخاطر فهذا يدل على أنه قضى لك بالجهل فإن من قضى له في الأزل بالإمامة فإنما يقضيها بأسبابها فيجري عليه الأسباب ويستعمله بها ويدفع عنه الخواطر التي تدعوه إلى الكسل والبطالة بل الذي لا يجتهد لا ينال درجة الإمامة قطعا والذي يجتهد ويتيسر له أسبابها يصدق رجاؤه في بلوغها إن استقام على جهده إلى آخر أمره ولم يستقبله عائق يقطع عليه الطريق فكذلك ينبغي أن يفهم أن السعادة لا ينالها إلا من أتى الله بقلب سليم وسلامة القلب صفة تكتسب بالسعي كفقه النفس وصفة الإمامة من غير فرق.
نعم العباد في مشاهدة الحكم على درجات فمن ناظر إلى الخاتمة أنه بماذا يختم له ومن ناظر إلى السابقة أنه بما قضى له في الأزل وهو أعلى لأن الخاتمة تبع السابقة ومن تارك للماضي والمستقبل هو ابن وقته فهو ناظر إليه راض بمواقع قدر الله عز وجل وما يظهر منه وهو أعلى مما قبله ومن تارك للحال والماضي والمستقبل مستغرق القلب بالحكم ملازم في الشهود وهذه هي الدرجة العليا.
العدل معناه العادل وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله فمن أراد أن يفهم هذا الوصف فينبغي أن يحيط علما بأفعال الله تعالى من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت ثم رجع البصر فما رأى من فطور ثم رجع مرة أخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير وقد بهره جمال الحضرة الربوبية وحيره اعتدالها وانتظامها فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدله تعالى وتقدس.
وقد خلق أقسام الموجودات جسمانيها وروحانيها كاملها وناقصها وأعطى كل شيء خلقه وهو بذلك جواد ورتبها في مواضعها اللائقة بها وهو بذلك عدل فمن الأجسام العظام في العالم الأرض والماء والهواء والسموات والكواكب وقد خلقها ورتبها فوضع الأرض في أسفل السافلين وجعل الماء فوقها والهواء فوق الماء والسموات فوق الهواء ولو عكس هذا الترتيب لبطل النظام.
ولعل شرح وجه استحقاق هذا الترتيب في العدل والنظام مما يصعب على أكثر الأفهام فلننزل إلى درجة العوام ونقول لينظر الإنسان إلى بدنه فإنه مركب من أعضاء مختلفة كما أن العالم مركب من أجسام مختلفة فأول اختلافه أنه ركبه من العظم واللحم والجلد وجعل العظم عمادا مستبطنا واللحم صوانا له مكتنفا إياه والجلد صوانا للحم فلو عكس هذا الترتيب وأظهر ما أبطن لبطل النظام.
وإن خفي عليك هذا فقد خلق للإنسان أعضاء مختلفة مثل اليد والرجل والعين والأنف والأذن فهو بخلق هذه الأعضاء جواد وبوضعها مواضعها الخاصة عدل لأنه وضع العين في أولى المواضع بها من البدن إذ لو خلقها على القفا أو على الرجل أو على اليد أو على قمة الرأس لم يخف ما يتطرق إليه من النقصان والتعرض للآفات وكذلك علق اليدين من المنكبين ولو علقهما من الرأس أو من الحقو أو من الركبتين لم يخف ما يتولد منه من الخلل وكذلك وضع جميع الحواس في الرأس فإنها جواسيس لتكون مشرفة على جميع البدن فلو وضعها في الرجل اختل نظامها قطعا وشرح ذلك في كل عضو يطول.
وبالجملة فينبغي أن تعلم أنه لم يخلق شيء في موضع إلا لأنه متعين له ولو تيامن عنه أو تياسر أو تسفل أو تعلى لكان ناقصا أو باطلا أو قبيحا أو خارجا عن المتناسب كريها في المنظر وكما أن الأنف خلق على وسط الوجه ولو خلق على الجبهة أو على الخد لتطرق نقصان إلى فوائده.
وإذا قوي فهمك على إدراك حكمته فاعلم أن الشمس أيضا لم يخلقها في السماء الرابعة وهي واسطة السموات السبع هزلا بل ما خلقها إلا بالحق وما وضعها إلا موضعها المستحق لها لحصول مقاصده منها إلا أنك ربما تعجز عن درك الحكمة فيه لأنك قليل التفكر في ملكوت السموات والأرض وعجائبها ولو نظرت فيها لرأيت من عجائبها ما تستحقر فيه عجائب بدنك وكيف لا وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس وليتك وفيت بمعرفة عجائب نفسك وتفرغت للتأمل فيها وفيما يكتنفها من الأجسام فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} 41 سورة فصلت الآية 53 ومن أين لك أن تكون ممن قال فيهم {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} 6 سورة الأنعام الآية 75 وأنى تفتح أبواب السماء لمن استغرقه هم الدنيا واستعبده الحرص والهوى.
فهذا هو الرمز إلى تفهيم مبدأ الطريق إلى معرفة هذا الاسم الواحد وشرحه يفتقر إلى مجلدات وكذا شرح معنى كل اسم من الأسامي فإن الأسامي المشتقة من الأفعال لا تفهم إلا بعد فهم الأفعال وكل ما في الوجود من أفعال الله تعالى.
ومن لم يحط علما بتفاصيلها ولا بجملتها فلا يكون معه منها إلا محض التفسير واللغة ولا مطمع في العلم بتفصيلها فإنه لا نهاية له وأما الجملة فللعبد طريق إلى معرفتها وبقدر اتساع معرفته فيها يكون حظه من معرفة الأسماء وذلك يستغرق العلوم كلها وإنما غاية مثل هذا الكتاب الإيماء إلى مفاتحها ومعاقد جملها فقط.
تنبيه:
حظ العبد من العدل لا يخفى فأول ما عليه من العدل في صفات نفسه وهو أن يجعل الشهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدين ومهما جعل العقل خادما للشهوة والغضب فقد ظلم هذا جملة عدله في نفسه وتفصيله مراعاة حدود الشرع كلها وعدله في كل عضو أن يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه وأما عدله في أهله وذويه ثم في رعيته إن كان من أهل الولاية فلا يخفى.
وربما يظن أن الظلم هو الإيذاء والعدل هو إيصال النفع إلى الناس وليس كذلك بل لو فتح الملك خزانته المشتملة على الأسلحة والكتب وفنون الأموال ولكن فرق الأموال على الأغنياء ووهب الأسلحة للعلماء وسلم إليهم القلاع ووهب الكتب للأجناد وأهل القتال وسلم إليهم المساجد والمدارس فقد نفع ولكنه قد ظلم وعدل عن العدل إذ وضع كل شيء في غير موضعه اللائق به ولو آذى المرضى بسقي الأدوية والفصد والحجامة وبالإجبار على ذلك وآذى الجناة بالعقوبة قتلا وقطعا وضربا كان عدلا لأنه وضعها في مواضعها.
وحظ العبد دينا من مشاهدة هذا الوصف الإيمان بأن الله عز وجل عدل أن لا يعترض عليه في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله وافق مراده أو لم يوافق لأن كل ذلك عدل وهو كما ينبغي وعلى ما ينبغي ولو لم يفعل ما فعله لحصل منه أمر آخر هو أعظم ضررا مما حصل كما أن المريض لو لم يحتجم لتضرر ضررا يزيد على ألم الحجامة وبهذا يكون الله تعالى عدلا والإيمان به يقطع الإنكار والاعتراض ظاهرا وباطنا وتمامه أن لا يسب الدهر ولا ينسب الأشياء إلى الفلك ولا يعترض عليه كما جرت به العادة بل يعلم أن كل ذلك أسباب مسخرة وأنها رتبت ووجهت إلى المسببات أحسن ترتيب وتوجيه بأقصى وجوه العدل واللطف.
اللطيف إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها وما لطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا لله سبحانه وتعالى فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك بل الخفي مكشوف في علمه كالجلي من غير فرق وأما رفقه في الأفعال ولطفه فيها فلا يدخل أيضا تحت الحصر إذ لا يعرف اللطف في الفعل إلا من عرف تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها وبقدر اتساع المعرفة فيها تتسع المعرفة لمعنى اسم اللطيف وشرح ذلك يستدعي تطويلا ثم لا يتصور أن يفي بعشر عشيره مجلدات كثيرة وإنما يمكن التنبيه على بعض جمله.